قراءة انطباعية في ديوان “لا ماء في النهر” لناصر البدري. قراءة: بدرية البدري

 



قراءة انطباعية في ديوان “لا ماء في النهر” لناصر البدري

                                                   قراءة: بدرية البدري

 

تخيّلتُ أنني قد أعبر النهر ولا أبتلّ، فقد أخبرني أن “لا ماء في النهر” ولكنني تفاجأت بالغرق في الشعر حتى كِدتُ أفقدُ أنفاسي.

إنه الدكتور ناصر البدري في ديوانه الأخير الفصيح “لا ماء في النهر” الصادر عن دار سؤال.

أعتبر هذا الديوان خلاصة الخلاصة في تجربة ناصر البدري الشعرية حتى الآن، أما القادم فهو لا بد سيكون أجمل طالما استمر الشاعر في سبر أغوار القصيدة بهذه الروح الباحثة عن حرفٍ لم تكتشفه اللغة بعد.

في هذا الديوان تحضر تجربة الشاعر الحياتية بشكل لافت، بدءًا من صخبها العاطفي إلى السياسي إلى الغربة الحاضرة بقوة في كلمات قصائده، ورغم أن النقّاد يختلفون في كون التجربة الشخصية للشاعر مُحفزاً لكتابة قصائده، ويرون بأننا لا يمكن أن نحصر التجربة الشعرية في مفهوم ضيق يتمركز في تجارب شخصية بسيطة. وهذا هو رأي الأدباء العرب كما أورد ذلك محمد مندور في كتابه الأدب ومذاهبه.

ولكن يمكننا الخلاص إلى أن التجربة الشخصية أحياناً تمتدُّ لكل ما نصادفه من مواقف حياتية، وكل ما نشاهده من تجارب إنسانية تجعلنا نقف أمامها، ونتأثر بها، فتتغلغل في أعمق نقطةٍ في أرواحنا، وتحضر كل تفاصيلها في كلمات قصائدنا، وهذا هو ما يذهب إليه الأدباء الأوروبيون، * المصدر السابق.

وأجدني شخصياً أميل إليه.

إن الشاعر جزءٌ من هذا العالم لا يمكنه التملّص منه، أو النأي بنفسه بعيداً عنه، وبحضور تجربة الشاعر الشخصية، تحضر ثقافته التي تتمثل في الكلمات التي استخدمها ودقة التراكيب، والجمل الشعرية العميقة.

في ديوان ” لا ماء في النهر ” أتت كل قصيدةٍ تُنافِسُ أختها على عرشها، حتى خُيّل إليّ أن كل قصيدة ملكة لحالها في مملكةٍ لا يطأها سواها.

تستولي الغربة على المفردة، والعاطفة، فتبدو ساحرةً لا تقنط من ترديد سِحرها على الأرواح:

في الغربةِ

اجتمع الوحيد بذاتهِ،

ثم افترقْ

ولقد رآها

ثمّ حاورها

ولانَ.. فلَمْ تَرِقْ

طُرُقٌ

تؤدي في نهايتها

إلى طُرُقٍ

ولستَ سوى نَفَقْ

فامضِ،

الوحيدُ يتُوهُ

لو سألوهُ عن وصفٍ أدقْ ! ”

أمر على الديوان فأجدني عاجزة عن اقتناص القصيدة الأجمل، القصيدة التي قد يعتبرها القارئ المتذوق للشعر مفتاح الديوان أو زهرته، ولكن وكما أسلفت، كل قصيدةٍ هنا هي بيت القصيد:

لا ربَّ لكْ

إلاكَ

فاكسِرْ مِجمرَكْ

أنتَ احترفتَ النارَ

فاحترقوا

وقالتْ: هيتَ لكْ

لا القيدُ قادَكَ

لا، ولا مَنْ كبَّلكْ

أنتَ الأنيقُ عَلى الضِفافِ

البحرُ دونك قد هَلكْ

من ذَا سيجرؤُ يسألَكْ؟!

أبحرْ

فعينُ الله واسعةٌ

وأنت تظنُّها في “وادي الجفْنينِ

حتمًا لَمْ تَركْ

لمن وزّعَ الوردُ جمرَ القُبلْ؟

لتلكَ الوحيدة في الليلِ

تنظرُ يأتي

ولكنَّهُ

في خضمِّ الأملْ

بخَّرَ “الحوجريُّ” عباءتَها..

فاشتعلْ

تنوّعت القصائد في ديوان ” لا ماء في النهر ” بين العاطفية الموغلة في العشق، ولكنها ليست كأي عشق، إنه ذلك العشق الحزين الباحث عن نصفٍ ليُكمله، العاجز حتى عن إدراك نفسه:

في الحزنِ

لا أنتِ اكتملتِ..

ولا احتفلتِ..

ولا أنا

إلى الوطنية المُسرفة في الحب:

موطنُ الحبِّ والجمالِ المؤبّدْ

كلُّ عامٍ وأنتَ حرٌّ مؤيّدْ

يا مُصلَّى السلامِ

ويا رملَ قلبيْ

حَبَّةُ الرَّملِ

من رمالكَ مَسجِدْ

يأتي ليُفسِّر هذا العشق اللامُتناهي؛ فيقول:

وطني ليس أغانٍ ومشاعرْ

وطني المعنى الذي يختزلُ الإيمانَ في مقلةِ كافرْ

وطني القطرةُ والصخرةُ

بابُ الله في الجنّاتِ،

والبابُ المجاورْ

ولأن العاشق لا بد أن يكون مُتفرِّداً بذاته، يدعونا الشاعر لأن نكون شيئاً لا يشبه الأشياء، سورةً كبرى، أو آيةً واحدة فقط، ولكن ليس كأي آية، آية تفرّدت بذاتها:

كنْ سورةً كُبرى

فَإِنْ لم تستطعْ

كُنْ آيةً لا تُشبهُ الآياتِ

بيد أن حالة العجز والحزن واليأس تسكن القصيدة وهو يهمس بها، سأكون بعد غد:

سَ

إنَّمَا

بَعْدَ غَدْ

كئيبٌ أنا اليومَ جدًا

تمامًا

كَما كنتُ مِنْ قَبْلِ يَومينِ

حينَ هَمستُ لَهُ:

بَعْدَ غَدْ ! ”

يبحث بها عن مُنقذ، هذا المنقذ قد يكون أب، وقد يكون ….

يا أبَانَا

أبَانَا

ويسقُطُ في الجُبِّ يُوسفُ..

كانَ أخَانَا ! ”

ولا يزال القلق يستوطن الحرف والقصيدة، يأخذه بعيداً ليقلق على كل شيء ولو كان مسمارا تعلّق في صالة عرض:

عالقٌ وحديْ

تُعلَّقُ بيْ

كلَّ يومٍ لوحةٌ

لا دَخَلَ ليْ

باختيار اللوحةِ الأحلى

أو الأغلى

يَديْ

مبتورةٌ من قَبْلِ أنْ أُخلَقَ في المصنعِ

أمّا جسَديْ

ظاميءٌ

من فرْطِ ما عانيتُ من صَلَفِ الرطوبةِ

منهكٌ.. وصَدِيْ

تنوّعت القصائد في الديوان بين قصائد التفعيلة، كقوله:

حضورٌ لهُ بالغيابِ مُكلَّلْ

حضورٌ..

ولا حدَّ يدركُهُ

قالَ ما قالَ .. واحتاجَ يبدأُ

والقصائد العمودية، بأبياتها العميقة التراكيب:

أيْنَمَا أسْلَمْتُ وَجْهيْ يَمَّمَتْ

خُطْوَتِي نّحْوي فَغَامْتْ قبلتي

 

أيُّها المُمْتَدٌّ.. مَا هَذا الجَفَا؟

عُدْ.. فَمَا فِي اليَدِ ذِي مِنْ حِيْلَةِ

 

نَحنُ مِنْ فَرْطِ الذي حَلَّ بِنَا

حيُّنَا يَشْكُو لقَاضٍ مَيِّتِ

 

قَدْ تَشَاكَلْنَا على أسْمَائِنَا

فَكَأنَّا لَثْغَةٌ في اللُّغَةِ

 

قراءة واحدة في هذا الديوان لا تكفي، ولا أعتبر نفسي ناقدة بقدر ما يأسرني الشعر، وتأخذني الكتابة إليه على بساطٍ سحري، وهنا أجدني أغرق ولا أكتفي، أواصل الغرق، رغم أن ناصر يخبرني في كل لحظة أن ” لا ماء في النهر “.

ولكنني أقول له: اعبر بنا بسلامٍ فإن الماء بالماءِ أرقّ.

 


قراءة انطباعية في ديوان “لا ماء في النهر” لناصر البدري. قراءة: بدرية البدري قراءة انطباعية في ديوان “لا ماء في النهر” لناصر البدري. قراءة: بدرية البدري   بواسطة مدونة تكامل في فبراير 20, 2021 تقييم: 5

ليست هناك تعليقات:

تحميل برنامج الشبكات للصف التاسع الأساسي، والتعرف على واجهة البرنامج

  يمكنك تحميل البرنامج من الرابط https://drive.google.com/file/d/1BwU3dWhLS0YY3Be83JS255pHobkBUBod/view?usp=sharing باتباع الشرح في الفيديو ...

صور المظاهر بواسطة enjoynz. يتم التشغيل بواسطة Blogger.