(لأن بدرية فنانة في تزيين حروفها وهي تكتب روايتها) قراءة في رواية ظل هيرمافروديتوس للكاتب محمد الجزمي
أحداث الرواية، أنت الآن هنا، بقدرةِ حرفٍ صرت هناك، كيف؟ لا أحد يعلم.. لكن بدرية البدري تختلف، هي تعرف كيف تكتب الشعر فتُبدع فيه، وتعرف كيف تكتب الرواية وتتفوق فيها، حتى في القصص، قرأت لها قصص أطفال؛ هي تعرف كيف تكتب للطفل فتكون طفلة مثلهم، وإذا كتبت للبالغين صارت بالغة تقود حروفها ببراعة؛ حروفاً غير مختزلة وفي ذات الوقت لا تخدش الحياء.
أعجبني أن الكاتبة لم تشرح معنى عنوان روايتها ولا منشأه، هذا يجعل القارئ يبحث ويستكشف ويقرأ عن المرض وأسطورته.. الكاتبة مشغولة بحياكة ثوب روايتها، لا وقت لديها لحياكة ثوبٍ خاطته الأساطير منذ زمن بعيد.
نقرأ هنا لشاعرة تكتب بقلم يعرف طريقه، يعرف كيف يأسرك ويأخذك إلى عالمه دون أن تشعر، لغتها ليست مبهرجة كما هي لغة الشعراء عادةً إذا كتبوا الرواية، يُغرقونك ليس في بحر اللغة إنما في محيطاتها هائجةِ الأمواج.. بدرية شاعرة تختلف، رغم أن لغتها في الرواية شاعرية لكنها تفصل ما بين الشعر والرواية السردية، وهو ما يفشل فيه كثير من الشعراء المتأرويون.. لهذا السبب (لأن بدرية فنانة في تزيين حروفها وهي تكتب روايتها) ساءني أنها استخدمت اللهجة المحلية لكتابة الحوارات بين شخوص الرواية، لا رفضاً للمحلية، إنما هي تكتب الفصحى كأنها تصنع حلوى عمانية فاخرة، فلماذا تضيف بين سطورها اللهجة التي تحمل رونقاً لغويًّا أقل؟!
الكاتبة تكتب ليس التفاصيل، إنما تفاصيل التفاصيل، تُدخلك في جو الرواية بكل سلاسة، أنت لا تشعر بنفسك إلاَّ وقد قرأت عدداً من الصفحات لم تكن مخطِّطاً لها، تندمج في القراءة تستشعر معها الحدث وأحاسيس البطلة.. هناك تلك اللقطة التي كانت فيها سعاد في إوجِّ ضيقها وهي في سيارة الأجرة تقلِّب كتاباً بين يديها من شدة الضجر والملل وسوء المزاج، لا تقرأ إنما تعبث لتُمضي الوقت وتتخلص من الزمن الحاضر، ذهبت إلى الصفحة الأخيرة لتقرأ عدد صفحات الكتاب فوجدته (148) صفحة، أنا لا إراديًّا وجدت نفسي أنتقل معها إلى الصفحة الأخيرة من الرواية لأجدها (198) صفحة.. عندها علمت أنني قد عشت مشاعر البطلة وموقفها، قلت في نفسي أخاطب الكاتبة: لماذا يا بدرية لم يتوافق عدد صفحات روايتك مع عدد صفحات كتاب سعاد؟ كيف قلبتِ الرقم 9 إلى 4 دون وجه حق؟!
نأتي الآن إلى الأنوثة والذكورة في الرواية، تلك الثنائية الوصفية التي أحدثت عندي بعض الارتباك.
تقول سعاد: «ليس من السهل أبداً أن أقضي حياتي نصفاً؛ نصفَ امرأة أو نصفَ رجل»، أنا لم أستشعر هذه الجملة، فرغم أن مرض هيرمافروديتوس [لا تطلبوا مني كتابة هذا المصطلح من جديد] هو مزج بين الذكورة والأنوثة، لكننا لم نقرأ عن ذكورة سعاد في الرواية إلاَّ النذر، على العكس، بخلاف أنها لا تحيض وأنها بلا صدر والشعر الكثيف، كانت سعاد مكتملة الأنوثة باطنيًّا في كل شيء؛ مشاعرها، سلوكها، تصرفاتها، لغتها، عشقها لحمد، غيرتها، هناك لحظة تتذكر فيها حمد وتشتاق إليه، تتخيل أحضانه وقبلاته لها، بل وبكاءها بين يديه، هي التي لا تبكي، بل وتعاتبه أنه تزوج غيرها، كل هذا بلغة أنثوية ملتهبة ساخنة، تتخيله يقول لها: «كيف تصدقين أنني قد أتزوج غيرك؟» ترد عليه بطفولة وعصبية أنثوية: «كاذب، كاذب، كاذب».. قابلتُ وحادثتُ بعض النساء في الواقع، سعادُ أكثر أنوثة منهن.. لم تُبرز الكاتبة ذكورة بطلتها بما فيه الكفاية حتى نتفاعل معها، كل ما أعاقها المرضُ عنه هو أنها عاجزة عن الزواج فقط، وهذا عائق تجده كثير من النساء لأسباب مختلفة.. ربما - باعتقادي - لو استخدمت الكاتبة أسلوب الراوي العليم كان سيكون أوفق، إذ لن نتطلع على خواطر سعاد وكوامنها التي أسهبت الكاتبة في سردها حتى برزت الأنوثة (أنوثة الكاتبة ربما) أكثر من الذكورة في سعاد.
حسناً، هذا ليس رأيي أنا فقط، حتى أوليفيا عندما سمعت قصة سعاد لم تعتبرها مسألة كبيرة تستحق كتابة رواية عنها، إنْ هي إلا عملية تجميلية لتكبير الصدر وينتهي الأمر، والأدوية التي تتعاطاها كفيلة بإنزال الحيض والحد من الشعر الزائد.
لذلك ذُهلت أننا مع كل هذه الأنوثة التي ظهرت بها سعاد، في النهاية يقرر الطبيب أن يتم تحويلها إلى ذكر؟!
في نهايات الرواية تقول سعاد: «توقفت عن الاحتفال بعيد مولدي منذ زمن طويل... كل عام أزداد كآبة وحزناً»، لكنني على العكس، أراها في وضع سيء يزداد تحسناً مع الزمن، أنوثتها ليست معقدة إلى هذا الحد، وحمد الذي كان قضيتَها عاد إليها من جديد، يخبرها أنه ما زال يحبها.
متأخرة جاءت رغبتها للنساء، عندما احتضنتها صديقتها انتصار فشعرت سعاد معها بالرغبة، كان هذا بعد تجاوزها مرحلة المراهقة.. قد يغفر لها أنها قالت: «لأول مرة أقترب من إحداهن لحد تلامس أجسادنا»، مع هذا التلامس الأول استيقظ مارد الرغبة الذكورية.. ربما، لكن لماذا حدثت الرغبة مرة واحدة فقط؟ ولماذا لم تشعر بمثل هذه الرغبة مع أوليفيا التي اقتربت منها كثيراً إلى درجة (العشق) كما تصف سعاد؟
بعيداً عن ثنائية الذكورة والأنوثة في الرواية، استحقت الرواية أن أقيّمها بأربع نجوم من خمس، إذ إننا نقرأ هنا لروائية ترسم الرواية بريشة فنان لا مجرد قلمِ حبرٍ جاف، هنا أنت تقرأ الرواية ملونة كأنك تنظر إلى لوحة أبدعت بدرية في خلق الجمال فيها، ليس فقط في لغتها الجذابة، لكن أيضاً في القضايا العديدة التي طرحتها وتكلمت عنها، قصة حمزة بحد ذاتها رواية مستقلة، أجمل الحوارات ما دار بينه وبين أخته في جرأة عن المُوَاطَنة والأمن، يقول حمزة: «الأمنُ ليس ما علمونا إياه؛ أن تمشي ولا تخشى أن تُمزِّقَ قلبَك رصاصةٌ طائشة، الأمنُ أن تؤمن أن رأسك لن تقطعه كلمة».
أعجبتني النهاية المفتوحة التي آلت إليها الرواية، والرائع أن سعيداً لم يقابل أهله بالحقيقة.. لحظات لقائه بأبيه والتعرف على وجهه الآخر كانت من المواقف المؤثرة، واختلاسه النظر في المنزل يحاول رؤية أمه أو أخواته أيضاً مؤثرة، ثم خروجه هكذا ببساطة ومغادرته المنزل والقرية، كأنه غريب لا ينتمي إلى الأحياء والجمادات في هذا المكان كان متقنًا.
لقد عثر سعيد على نفسه، ماذا يريد أكثر من ذلك؟
(لأن بدرية فنانة في تزيين حروفها وهي تكتب روايتها) قراءة في رواية ظل هيرمافروديتوس للكاتب محمد الجزمي
بواسطة مدونة تكامل
في
فبراير 20, 2021
تقييم:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق